Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
المقالات

ما بين الثلاثين والخمسين… عشرون عامًا تبخّرت كأنها دقيقة!

محمد منيع ابوزيد

محمد منيع ابوزيد

بقلم: محمد منيع أبوزيد

اللحظة التي أيقظتني من وهم الزمن

كنت جالسًا في صالة المنزل، فنجان القهوة في يدي، صوته الخافت يختلط بصوت الأحاديث العائلية والضحكات التي تملأ المكان. فجأة توقّفت الضحكات في أذني، أو ربما توقفت أنا عن سماعها… نظرت إلى أبنائي:

من هؤلاء؟!

أطوالهم تكاد تلامس سقف المنزل، وجوههم نضجت، أصواتهم فيها وقار لم أعهده في صغار الأمس. حتى طريقة جلوسهم تغيّرت؛ صاروا يضعون ساقًا على ساق، ويتناقشون في أمور لم أعد أفهمها كما كنت أفهم كل صغيرة وكبيرة عنهم من قبل.

شعرت حينها وكأن أحدهم أعاد لي شريط حياتي بسرعة هائلة، ثم ضغط زر الإيقاف فجأة: متى كبروا؟ متى حدث هذا؟ وأين كنت أنا؟!

الثلاثون… بداية السرعة الخفية

منذ بلوغ الثلاثين، نشعر أننا أصبحنا ناضجين: وظيفة مستقرة، زواج، أطفال، مشاريع على الورق، وأحلام تبدأ بالتشكل. نعيش إحساس السيطرة الكاملة على حياتنا. تقول لنفسك:

“كل شيء تحت السيطرة… العمر طويل أمامي.”

لكن الحقيقة أن هذه المرحلة العمرية أشبه بقطار فائق السرعة… لا يُسمع صوته ولا تشعر بحركته، إلا عندما تصل إلى محطة الخمسين وتجد نفسك قد قطعت نصف الرحلة دون توقف.

عشرون عامًا… أين ذهبت؟

هذه العشرين عامًا تختفي لأننا ببساطة مشغولون جدًا بـ صناعة الحياة:

• تربية الأبناء الذين ننسى ونحن نربيهم أنهم سيكبرون بسرعة تفوق خيالنا.

• دفع الفواتير بلا توقف وكأننا نمول اقتصادًا كاملًا وحدنا.

• مواجهة تحديات مهنية لا تنتهي، وساعات عمل تأكل أجمل ساعات العمر.

• التزامات اجتماعية نذهب لها ونحن نتمتم: “متى نخلص؟”.

• وهم “الاستقرار” الذي نعتقد أنه يبطئ الزمن… بينما هو يسرقه منا بهدوء.

اللحظة التي توقظك فجأة

حين تصل إلى الخمسين، يحدث مشهد يشبه استيقاظك من حلم طويل، لكنه حلم تعتقد أنك كنت واعيًا فيه. فجأة تفتح عينيك وتجد نفسك في منتصف العمر:

• أطفال الأمس صاروا شبابًا يناقشونك بجرأة في آرائك القديمة!

• بعض الأصدقاء غابوا عن حياتك، ليس لأنهم أرادوا الرحيل، بل لأن الحياة فرقتكم ببساطة.

• ملامح وجهك أصبحت دفتر ذكريات يروي كل سهر، وكل هم، وكل صمت طويل لم تلحظه وقتها.

• جسدك بدأ يهمس لك: “خفف السرعة يا صديقي… أنا لم أعد آلة كما كنت تظن.”

والأغرب من كل ذلك؟ أن الذكريات التي كانت بعيدة تشعر الآن وكأنها حدثت البارحة: أول يوم عمل جديد، أول سيارة اشتريتها، أول يوم مدرسة لطفلك الأول… وكأن الزمن لم يمشِ… لكنه في الحقيقة ركض!

أين ذهبوا؟ ومن فقدنا؟

السؤال الذي يطرق رأسك بلا رحمة: أين ذهبوا؟

• الأطفال الذين كانوا يستيقظون صباحًا ليقفزوا في حضنك… الآن لا تراهم إلا وقت العشاء، وأحيانًا أقل.

• أصدقاء الصغر الذين كنت تظن أنكم ستبقون معًا دائمًا… أصبحوا وجوهًا في صور قديمة ورسائل لم يُرد عليها أحد منذ سنوات.

• وحتى أنت نفسك… أين كنت؟ أين الشخص الذي كان يحلم ويضحك بلا سبب، ويتحمس لأبسط الأمور؟

المفارقة المضحكة المبكية

الغريب أن كل هذه الدهشة لا تأتيك في العشرين أو حتى الثلاثين، لأنك في تلك الفترة مشغول جدًا بـ صناعة المستقبل حتى أنك لا تلاحظ تسرب الحياة من بين أصابعك.

ثم، عندما تصل الخمسين، يأتيك “إشعار الحياة” متأخرًا:

“مرحبًا، انتهى نصف الوقت تقريبًا، هل ترغب بمشاهدة سجل إنجازاتك؟”

فتبتسم ضحكة فيها مرارة، وتقول: “من اليوم سأعيش كل لحظة!”

لكن بعد أسبوعين، تجد نفسك مرة أخرى غارقًا في الدوام، فواتير الكهرباء، مراجعات المدارس، مواعيد المستشفيات… وكأن الحياة تهمس لك بسخرية: “عودًا حميدًا للروتين القديم!”

الخلاصة المدهشة والمؤلمة

الزمن لا يسرقك… بل أنت الذي تضعه في جيوب الآخرين: أبناؤك، عملك، التزاماتك، وهمك الدائم بأن هناك وقتًا لاحقًا للعيش.

لكن الحقيقة التي تصفعك بعد الخمسين هي: العيش ليس لاحقًا… العيش كان الآن، في تلك اللحظة التي تجاهلتها ظنًا أن هناك وقتًا أطول.

الدروس التي تأتي متأخرة دائمًا

• لا تؤجل نفسك… الحاضر ليس تدريبًا للمستقبل، إنه العرض الحقيقي.

• اختر من يستحق وقتك بعناية… لأن وقتك لا يتكرر.

• اضحك كثيرًا… حتى على نفسك، لأن نصف مشاكلك الماضية كانت كوميديا سوداء بلا جمهور.

• عِش اللحظة… وصوّرها إن شئت، لكن لا تجعل الصورة بديلًا عن الشعور.

• قل “أحبكم” الآن… فبعض الأشخاص لن يكونوا موجودين لاحقًا لتسمعهم هذه الكلمة.

الخاتمة: الضحكة التي تحمل كل شيء

في النهاية، العمر بين الثلاثين والخمسين ليس عشرين عامًا… بل دقيقة طارت، ضحكنا فيها قليلًا، غضبنا كثيرًا، ركضنا خلف كل شيء إلا الحياة نفسها.

تجلس الآن في صالة المنزل، تبتسم ابتسامة ساخرة ممزوجة بالألم والدهشة وتقول:

“يا الله… متى صار كل هذا؟ ومن سمح لهم أن يكبروا وأنا مشغول؟!”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى