محمد منيع ابوزيد يكتب عندما أصبحتُ أرنبًا لم تعد تُغريني الجزرة

بداية الركض
كنتُ يومًا أركض خلف الجزرة كما لو أن حياتي تعتمد عليها.
أركض بعيني، بقلبي، بعقلي، بكل ما أملك من لهاث.
كنت أظن أن الجري هو الحياة، وأن من يتوقف يموت.
كنا نتعلم منذ الطفولة أن “السعيد هو من يصل”،
لكن أحدًا لم يقل لنا إنّ الوصول قد يكون بداية الخسارة.
كلنا ركضنا.
كلنا حلمنا بالجزرة المعلقة أمامنا — شكلها يختلف من شخص لآخر:
ترقية، حب، شهرة، مال، مكانة، إعجاب.
لكنّها في النهاية نفس الجزرة، بنفس الطعم: الطعم الذي لا يُشبع.
كنت أركض لأنهم قالوا إن الركض فضيلة.
كنت أركض لأن الخوف كان خلفي، لا لأن الأمل كان أمامي.
واليوم، حين توقفت… أدركت أنني لم أكن أركض للحياة، بل كنت أهرب منها.
لحظة التوقف
هناك لحظة لا تشبه أي لحظة أخرى.
تجلس فيها وحدك، تتنفس، وتنظر حولك فلا تجد شيئًا يُغريك بالعودة إلى السباق.
تشعر أن كل شيء فقد بريقه، حتى الجزرة التي كانت تحكم يومك.
في تلك اللحظة، لا تكون هزيمة ولا انتصارًا، بل انكشافًا.
تنكشف لك نفسك كما هي، بلا زخرفة، بلا أقنعة.
تدرك أنك لم تكن تجري نحو السعادة، بل كنت تهرب من الفراغ.
الفراغ الذي كنت تملؤه بالمواعيد، والطموحات، والإنجازات، والناس.
وحين تواجه هذا الفراغ لأول مرة، تخاف.
لكن بعد قليل، تحبه.
تحبه لأنه صادق. لأن فيه صوتك الحقيقي.
المعنى الضائع في الزحام
نحن جيل امتلأت رؤوسنا بالأهداف، وفرغت قلوبنا من المعنى.
قيل لنا: “احلم، وحقّق، واصنع، ونافس.”
لكن لم يقل لنا أحد: “اهدأ، وأنصت، وتأمل، وكن.”
نقيس أنفسنا بما نملك، لا بما نفهم.
نقارن خطواتنا بخطى الآخرين، ونسينا أن الأرواح لا تتسابق.
كل واحدٍ منا يعيش سباقًا غير مرئي ضد خوفٍ قديم، ضد جرحٍ لم يلتئم، ضد صوتٍ داخلي يقول له: “أنت لم تفعل ما يكفي بعد.”
كم خسرنا من عمرنا ونحن نطارد السراب؟
كم مرة ظننا أننا نُمسك بالجزرة، فإذا بنا نكتشف أننا نُمسك بالهواء؟
حين تجوع الروح
الجوع الذي ينهش الإنسان ليس في معدته، بل في روحه.
نأكل، ونشرب، ونضحك، وننشر صورنا،
لكن شيئًا في الداخل يبقى فارغًا.
نبحث عن الحب لنشعر أننا موجودون،
ونجمع المال لنشتري قليلًا من الأمان،
ونطارد الشهرة لنُقنع أنفسنا أننا لم نُخلق عبثًا.
لكن الحقيقة المؤلمة أن كل ذلك مسكنات مؤقتة لوجعٍ عميقٍ لا يُرى.
الروح لا تشبع من الخارج.
الروح تحتاج إلى صمت، إلى تأمل، إلى معنى، لا إلى تصفيق.
وربما أعظم لحظة وعي في حياتك،
هي حين تدرك أن الجوع الذي كنت تحاربه،
كان هو ذاته الذي يُبقيك حيًّا.
الأرنب المسالم
أما الأرنب المسالم، الذي لم تعد تُغريه الجزرة،
فهو لم يفقد شغفه بالحياة، بل وجد طريقًا آخر لفهمها.
إنه لم يعتزل الناس، بل اعتزل الصخب في داخله.
لم يهرب من السباق، بل خرج منه بإرادته حين أدرك أنه سباق لا فائز فيه.
هو لا يتمرد على أحد، بل يصالح نفسه.
يُطفئ ضوء المقارنة، ويُضيء شمعة الرضا.
يعرف أن الجزرة ليست العدو، بل المرآة التي تعكس ما نُخفيه.
الناس سيقولون: “لقد تغيّر.”
نعم، تغيّر.
لأنه أدرك أن السلام أغلى من التصفيق،
وأن أجمل انتصار هو أن تتجاوز الحاجة للانتصار.
حين يُعيدك الهدوء إلى الحياة
الهدوء لا يعني النهاية، بل العودة إلى الأصل.
حين تهدأ، تبدأ تسمع.
تسمع صوت الريح، وصوت قلبك، وصوت الأشياء التي كنت تدهسها وأنت تركض.
في الهدوء، تتعلم أن السرعة ليست دليلًا على النجاح،
وأن البطء ليس فشلًا،
وأن كل شيء في هذا الكون يسير بإيقاعه الخاص.
لا أحد متأخر، ولا أحد سبقك.
كلٌّ في طريقه إلى نفسه.
فقط توقف عن مقارنة الطرق، لأن الطريق الذي يُشبهك هو طريقك وحدك.
الفقد الجميل
نخاف الفقد لأنه يجعلنا نشعر بالعُري.
لكن ماذا لو كان الفقد هو الطريق إلى النقاء؟
كل خسارة تعلّمك درسًا لا تمنحه ألف مكافأة.
تفقد أشخاصًا فتعرف قيمة الوفاء،
وتفقد فرصًا فتدرك أن الرزق ليس في اليد بل في القلب.
تفقد أحلامك القديمة فتكتشف أنك نضجت عنها،
كما يترك الطفل لعبته دون أن يشعر بالحزن.
النضج ليس أن تحصل على كل ما تريد،
بل أن تعرف ما الذي لم يعد يستحق أن تريده.
الحرية الهادئة
الحرية ليست أن تملك كل شيء،
بل أن تستيقظ ذات صباحٍ وتشعر أنك لا تحتاج شيئًا.
أن تبتسم لأنك نجوت من سباق لم تفز به،
لكنّك لم تعد تهتم بالفوز أصلًا.
الحرية أن تتناول فطورك دون أن تلتقط له صورة،
أن تمشي دون أن تكتب عن وجهتك،
أن تحب بصمتٍ دون أن تُثبت ذلك لأحد.
أن تعيش كما يُريحك، لا كما يُرضي الآخرين.
حين تصل إلى تلك المرحلة من الوعي،
تصبح إنسانًا خفيفًا… لا يُثقل كاهلك شيء، ولا يُغريك شيء.
نهاية السباق
من قال إن الحياة سباق؟
من قال إن الجزرة غاية؟
لقد أقنعونا أن الفرح مؤجل،
وأن الراحة بعد التقاعد، والسعادة بعد الإنجاز، والحب بعد التضحية،
لكن كل ذلك كان أكذوبة لطيفة لنُواصل الركض.
الحياة ليست على خط نهاية.
الحياة هنا، في اللحظة التي تتنفسها الآن،
في كوب القهوة الذي تشربه بهدوء،
في ضحكة طفل، في نسمة هواء، في قلبٍ مطمئن لا ينتظر شيئاً
الأرنب والقمر
في نهاية الحكاية، جلستُ تحت ضوء القمر.
لم أكن أفكر بشيء، ولم أكن أنتظر شيئًا.
كل ما شعرتُ به هو امتنانٌ غريب لأنني توقفت في الوقت المناسب.
تأملتُ القمر، وقلت لنفسي:
لقد كنت أركض إليه طوال حياتي،
وحين توقفت، وجدته ينتظرني هنا… في السماء نفسها.
عندما أصبحتُ أرنبًا مسالمًا، لم أفقد شيئًا،
بل استعدت كل شيء: نفسي، وهدوئي، وصوتي الداخلي الذي ضاع في الزحام.
الجزرة لم تعد تُغريني،
لأنني أخيرًا شبعتُ من وهم الجوع.
وفي نهاية الأمر
ربما لم نُخلق لنفوز، بل لنفهم.
ولم نُخلق لنمتلك، بل لنُبصر.
وكل ما ظننّاه خسارة، كان طريقًا إلى وعيٍ أعمق.
العالم لا يحتاج إلى أرانب أكثر سرعة،
بل إلى قلوب أكثر صدقًا.
لقد انتهى السباق منذ زمن، ولم يفز أحد.
أما أنا، فقد جلست على العشب، أبتسم للقمر،
وأقول بهدوء يشبه الاكتفاء:
عندما أصبحتُ أرنبًا مسالمًا… لم تعد تُغريني الجزرة.