

الكاتبة: زينة سليم سالم البلوشي
الجزء السابع
وصل المحقق “علي الأنصاري” مع عناصر الشرطة إلى قصر “آل عيسى” مرة أخرى. كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، وكأن الهواء نفسه يعج بالشكوك. الجميع كان يتوقع أن ينكشف شيء جديد، شيء قد يقلب موازين القضية تمامًا ويقودهم أخيرًا إلى القاتل. الأشجار حول القصر كانت تتحرك ببطء تحت تأثير الرياح الباردة، وتلك الأصوات الموحشة زادت من شعور القلق الذي يلتف حول الجميع.
بدأ المحقق على الفور في تمثيل الجريمة، وطلب من “عصام” أن يقف أمام المكتب ويعيد تمثيل آخر لحظاته مع والده. ارتجف “عصام” قليلًا قبل أن يبدأ في الحديث، وتاهت عيناه في الفراغ لثوانٍ كأنه يستحضر المشهد في ذهنه. قال بصوت متردد:
“كان والدي في المكتب، وكنت أتحدث معه عن العمل. بدا سعيدًا جدًا ومتفائلًا، وكنت أشرح له بعض الخطط المستقبلية…”
غير أن صوته كان يفتقر إلى الثقة، وكأن هناك شيئًا يثقل قلبه.
أشار المحقق بعد ذلك إلى الكوب الموضوع على الطاولة، ذلك الكوب الذي أثار انتباهه منذ التحقيقات الأولى، وسأل “عصام” ببرود:
– هل لاحظت شيئًا غريبًا في الكوب؟
أجاب “عصام” بسرعة:
– لا… لا أعتقد. بدا طبيعيًا.
لكن في عيني المحقق كان يلمع شعور مختلف؛ إحساس بأن هناك جزءًا مفقودًا في رواية “عصام”، شيئًا لم يُقَل بعد. كان يراقب كل حركة، كل كلمة، وهو على يقين أن تفاصيل مهمة ما زالت مخفية.
ثم انتقل المحقق إلى “مريم” الخادمة، وأمرها أن تعيد تمثيل ما رأته في صباح اليوم التالي. بدأت تتحدث بصوت منخفض، وكأن الكلمات تتسرب بصعوبة من بين شفتيها:
“حين حاولت الدخول إلى غرفة مكتب السيد محمد لم أستطع، كان الباب مغلقًا بإحكام. شعرت بشيء غريب، وشممت رائحة دخان أثارت قلقي. طرقت الباب مرارًا دون إجابة…”
لفت انتباه المحقق ارتباكها الشديد، وعيناها الزائغتان، والخوف الظاهر في نبرتها. بدا وكأنها تخفي شيئًا أكبر مما تقول.
بعدها التفت إلى “سيف” الحارس، وسأله بلطف ظاهر:
– هل لاحظت أي أمر غير عادي تلك الليلة؟
أجاب “سيف” ببساطة:
– لا شيء… لم ألاحظ أي شيء غريب.
كانت إجابته سريعة وواثقة أكثر مما يجب، مما جعل المحقق يشك في صدقه. بدا الحارس هادئًا بشكل مبالغ فيه، لكن في عينيه كان هناك ما يوحي بشيء آخر، شيء مختبئ.
ثم جاء دور “أفلح الرحماني” المساعد الشخصي للضحية. لم يكن كعادته؛ بدا متوترًا جدًا، يداه ترتجفان وكلماته متقطعة. سأله المحقق:
– كيف كانت علاقتك بالضحية؟
وحين بدأ “أفلح” بالرد، كان لسانه يتلعثم بشكل واضح، محاولًا تجنّب نظرات المحقق. بدت على وجهه علامات خوف دفين، وأدرك المحقق أن وراء هذه اللامبالاة الظاهرة سرًا خفيًا.
وفي ختام تمثيل الجريمة، قرر المحقق جمع جميع أفراد الأسرة في غرفة واحدة. كان هدفه أن يراقب تفاعلاتهم لعل شيئًا غير متوقع يظهر. بدأ بطرح الأسئلة وهو يتابع حركاتهم بعناية شديدة، يراقب كل نظرة وكل تغير في ملامح الوجوه.
لاحظ أن “سعاد” تتجنب النظر إلى “عصام”، وكأن بينهما حاجزًا غير مرئي. أما “ناصر” فبدا مرتبكًا، يتحدث بسرعة وكأن الكلمات تتسابق مع أنفاسه.
كل حركة، كل كلمة، كل لحظة كانت مشحونة بالريبة. المحقق كان يدرس وجوههم كما لو كانوا قطع شطرنج على لوحة ضخمة، حيث يمكن لكل خطوة أن تكشف عن القاتل. “عصام” حاول أن يبدو هادئًا لكنه لم يستطع إخفاء القلق في عينيه، و”سعاد” كانت تحاول التواري عن الأنظار، بينما “ناصر” يسرع في الكلام وكأن كل ثانية تهدد بكشف أمر خطير.
مع نهاية الجلسة شعر المحقق أنه قريب جدًا من اكتشاف الحقيقة. كان لديه شعور قوي بأن “سعاد” و”أفلح” يشتركان في سر لم يُكشف بعد. الإشارات الكثيرة كانت تقود إليهما، لكن الدليل الحاسم لم يظهر بعد. لذلك قرر أن يركز عليهما أكثر، وأن يواجه كلًّا منهما بشكل منفصل، لعلّ شيئًا يخرج من الظل إلى النور.
يتبع…