Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
المقالات

حارس المقبرة

وصايا من نور

✍️بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 

✍️بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 

الفصل التاسع

عادَ عادلٌ إلى بيتهِ في الصباحِ بعدَ ليلةٍ قضاها في المقبرةِ، حاملاً بينَ يديهِ كنزاً منْ كنوزِ الأرضِ الثمينةِ. جلسَ إلى مائدةِ الإفطارِ معَ أهلهِ، لكنَّ فكرَهُ ظلَّ مشغولاً. لقدْ أيقنَ أخيراً أنَّ هذهِ الكنوزَ هيَ مصدرُ ثراءِ والدِهِ. كانَ هذا الاكتشافُ يملؤُهُ بالحيرةِ والدهشةِ، لكنَّ الإجاباتِ كانتْ على وشكِ أنْ تأتيَ.

لمْ تمضِ لحظاتٌ حتى دخلتْ أختهُ الصغرى وزوجُها. بعدَ أنْ سلّمتْ عليهِ بحرارةٍ، مدّتْ يدَها وقدّمتْ لهُ قطعةَ قماشٍ قديمةً ملفوفةً بعنايةٍ وقالتْ: “تفضّلْ يا أخي، هذا نصيبُكَ”.

كانتْ قطعةُ القماشِ منْ بينِ الميراثِ الذي قُسِّمَ، وقدْ آلتْ إلى أختهِ. لكنها لمحتْ فيها رسالةً مختومةً بالشمعِ الأحمرِ، كُتبَ عليها بخطٍّ مألوفٍ: “إلى ابني الغالي عادل”. سلّمتها لهُ وهيَ تبتسمُ ابتسامةً ملؤها الفضولُ، ثمَّ انسحبتْ بهدوءٍ تاركةً إياهُ وحدَهُ.

فتحَ عادلٌ الرسالةَ بيدٍ مرتجفةٍ، وبدأتْ عيناهُ تقرآنِ الكلماتِ التي حملتْ عبقَ والدِهِ:

“ولدي الحبيب عادل،

بعدَ السلامِ، لعلكَ تقرأُ كلماتي وأنا بينَ يدي الرحمنِ. أعلمُ أني تركتُ خلفَكَ عبئاً ثقيلاً، لكنكَ قويٌّ كما عهدتُكَ، فقدْ ربيتُكَ على الصبرِ والحكمةِ.

أما ما رأيتَ وسمعتَ منْ أهلِ القبورِ فلا تخفْ، فإنهمْ خيرُ أهلٍ وأكرمُ جليسٍ، ما دمتَ تعاملهمْ بالمثلِ. إنهمْ لا ينامونَ، ولا يغدرونَ.

وأما الكنوزُ التي جمعتَها، فهيَ هدايا محبةٍ يأتونَ بها منْ خزائنِ الأرضِ. فكنْ يا بُنَيَّ حكيماً في صرفها، وأنفقْ على الفقراءِ قبلَ أهلِكَ، فإنَّ في ذلكَ بركةً. وإياكَ أنْ تبيعَها في مدينتِنا، بلْ اذهبْ بها إلى الصائغِ أبا أحمدَ، فهو منْ تعاملتُ معهُ زمناً طويلاً.

وليحفظكَ الرحمنُ الرحيمُ، ولا تنسني منَ الدعاءِ والصدقةِ. وإذا قصدتَ بيتَ اللهِ الحرامِ، فابحثْ عني، فسأكونُ بانتظارِكَ.

والدُكَ المحب.”

اغرورقتْ عينا عادلٍ بالدموعِ الساخنةِ، وشعرَ أنَّ جبلاً منْ الهمِّ قدْ انزاحَ عنْ صدرِهِ. لقدْ كشفتْ لهُ هذهِ السطورُ أسراراً لمْ يكنْ يتخيلُها، ومنحتْهُ الطمأنينةَ التي كانَ يفتقدُها.

معَ غروبِ الشمسِ، ونداءِ المغربِ، تهيَّأَ عادلٌ للعودةِ إلى المقبرةِ. كانَ قلبُهُ مفعماً بالفرحِ، وكأنهُ ذاهبٌ إلى نزهةٍ في حديقةٍ غنّاءٍ. دخلَ المقبرةَ، وحيّا أهلَها كما تعلّمَ، ثمَّ انهمكَ في عملِهِ بجدٍّ ونشاطٍ. زرعَ الأزهارَ والريحانَ والياسمينَ حولَ القبورِ، حتى بدا المكانُ كروضةٍ تتنفسُ عطراً وسكينةً. كانَ كلُّ زهرةٍ يزرعُها تحملُ في طياتِها كلمةَ حبٍّ ووفاءٍ لوالدهِ.

وحينَ انتصفَ الليلُ، هبّتْ نسمةٌ باردةٌ أيقظتْ في جسدِهِ قشعريرةً، ثمَّ سمعَ رنينَ جرسٍ قادماً منْ بعيدٍ. اقتربَ منَ النافذةِ، فلمْ يرَ شيئاً. خرجَ يتتبعُ الصوتَ، فوجدَ شاباً وسيماً، أبيضَ البشرةِ، طويلَ الشعرِ، يرتدي ثياباً خضراءَ، وفي يدِهِ جرسٌ صغيرٌ يحرّكُهُ برفقٍ. كانَ الشابُّ يمشي بهدوءٍ بينَ القبورِ، وكأنَّهُ يسيرُ في طريقٍ يعرفُهُ جيداً.

اقتربَ منهُ عادلٌ بجرأةٍ، وسلّمَ عليهِ قائلاً: “هلْ أنتَ منْ أهلِ القبورِ يا أيها الشاب؟”

رفعَ الغريبُ رأسَهُ ببطءٍ، وإذا بعينيهِ تشعانِ نوراً صافياً يضيءُ المكانَ كالشمسِ في وضحِ النهارِ. ارتعبَ عادلٌ وتراجعَ خطواتٍ إلى الوراءِ، لكنَّ الشابَّ ناداهُ بصوتٍ مطمئنٍ كالنهرِ الجاري: “لا تخفْ يا عادل، اقتربْ.”

أغمضَ عادلٌ عينيهِ حتى يزولَ بريقُهما، ثمَّ سألَهُ: “منْ أنتَ؟ وما قصتُكَ؟”

ابتسمَ الغريبُ وقالَ: “أنا سامر، منْ بغداد. جئتُ إلى هذهِ البلادِ منذُ زمنٍ بعيدٍ أبحثُ عنْ قوتِ يومي. خُدعتُ وبِعتُ عبداً، حتى وصلتُ إلى قصرِ الملكِ. عملتُ منادياً لهُ بهذا الجرسِ، أذيعُ أوامرَهُ بينَ الناسِ. خدمتهُ بإخلاصٍ حتى أحبني، فأعتقني.”

انهمرتِ الدموعُ منْ عيني عادلٍ وهوَ يستمعُ إلى قصةِ سامرٍ: “لكنَّ الوزيرَ غارَ مني، فاتهمني بالسرقةِ، ودسَّ الذهبَ في غرفتي. كدتُ أُقتلُ مظلوماً لولا أنَّ والدَكَ – رحمَهُ اللهُ – وقفَ بجانبي. أمرَ الملكُ أنْ نقسمَ على المصحفِ، فأقسمتُ ببراءتي، أما الوزيرُ فقدْ عجزَ أنْ يضعَ يدَهُ على الكتابِ، فانفضحَ أمرُهُ وسُجنَ. عشتُ بعدها في القصرِ سعيداً، حتى غدرَ بي أخو الملكِ وصديقُ الوزيرِ، ففقأَ عيني وقتلني كي لا أكشفَ مؤامرتَهُ. حينها تولّى والدُكَ دفني بيديهِ، وهوَ يردّدُ: ‘هنيئاً لكَ الجنةَ يا سامر’. لقدْ كانَ خيرَ صديقٍ وخيرَ جليس.”

قالَ عادلٌ، وقدْ امتلأَ قلبُهُ بالحزنِ والتعاطفِ: “رحمكَ اللهُ يا سامر، وأنا لكَ أخٌ وصديقٌ كما كانَ والدي.”

عندها، مدَّ سامرُ يدَهُ، وقدْ لمعتْ بينَ أصابعِهِ قطعةُ ذهبٍ مضيئةٌ، وقالَ: “هذهِ عربونُ محبتي لكَ.”

أخذَها عادلٌ، وفجأةً اختفى سامرُ، ولمْ يبقَ إلا صوتُ جرسِهِ يتلاشى في الأفقِ.

عادَ عادلٌ إلى غرفتِهِ محمّلاً بكنوزٍ جديدةٍ، وأصدقاءَ منْ عالمِ الغيبِ، وقصصٍ منَ الأزلِ تحملُ بينَ طياتِها دروسَ العدلِ والوفاءِ. نامَ تلكَ الليلةَ، وصوتُ الجرسِ يرنُّ في أعماقِهِ كأنهُ نداءٌ أبديٌّ: “الصدقُ طريقُ النجاةِ.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى