Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
المقالات

نظارات الزمن: كيف علمني ضعف بصري أن أرى الحياة بوضوح!

محمد بن منيع ابوزيد

محمد بن منيع ابوزيد

مرحباً بكم في عالمي الضبابي أنا ذلك الشخص الذي يحتاج للتدقيق في قائمة الطعام ويقترب من اللافتات ليقرأها ويبحث عن نظارته بينما يرتديها فوق رأسه نعم أنا ذلك الكبير الذي يمد يده لتقريب الشاشات قليلاً حتى تتضح الكلمات والصور

لكن دعوني أخبركم بسر غريب كلما بدأ بصري يضعف ازدادت قدرتي على الرؤية وهذه ليست مزحة سخيفة من كبير بل هي حقيقة عميقة اكتشفتها في رحلتي مع تغير حدة بصري مع تقدم العمر

في شبابي كنت أتباهى بقدرتي على قراءة اللافتات من مسافات بعيدة انظروا يمكنني قراءة تلك اللافتة من هنا كنت أصرخ بفخر وكأنني اكتشفت علاجاً للسرطان كنت أرى كل شيء بوضوح مذهل الأرقام الصغيرة الخطوط الدقيقة تفاصيل وجوه الغرباء من بعيد حتى النجوم البعيدة في السماء

لكنني كنت في الحقيقة أعمى تماماً كنت أرى الأشجار ولا أرى الغابة أرى الساعة ولا أرى الوقت أرى الوجوه ولا أرى النفوس كنت مثل كاميرا فائقة الدقة تلتقط كل بكسل في الصورة لكنها تفشل في التقاط المعنى إذا كنت ترى كل شيء بوضوح فأنت غالباً لا ترى أي شيء مهم فالتفاصيل الدقيقة غالباً ما تكون ستارة دخان تخفي الحقائق الكبرى

كنت أحكم على الناس من مظهرهم ملابسهم تسريحات شعرهم أحذيتهم سياراتهم كنت أرى بوضوح مذهل كل عيب في مظهرهم كل خدش في سياراتهم كل بقعة على ثيابهم وكنت أظن أنني أعرفهم بناءً على هذه التفاصيل السطحية

كم كنت أحمق كم من أصدقاء رائعين خسرتهم لأنني رأيت عيوبهم الخارجية ولم أرَ جمالهم الداخلي وكم من أشخاص سيئين وثقت بهم لأنهم ارتدوا أقنعة جميلة خدعت عيني الحادة لا تثق بعينيك كثيراً فهما أكثر أعضاء الجسم قابلية للخداع العيون ترى المظاهر أما القلب فيرى الجوهر ولهذا نقع في الحب في الظلام

منذ أن بدأت عيناي تحتاجان للمساعدة تحولت حياتي إلى سلسلة من المواقف الكوميدية التي تستحق برنامجاً تلفزيونياً خاصاً مرة تحدثت بحرارة لمدة خمس دقائق مع تمثال في الحديقة العامة ظننته شخصاً يقف هناك ثم انتظرت رده بصبر حتى مر شاب صغير وقال بلطف يا عم هذا تمثال فأجبته بابتسامة نعم أعرف ذلك كنت فقط أتأمل فنه الجميل

في إحدى المرات جلست بجانب سيدة غريبة في المقهى وبدأت أحكي لها عن مغامراتي في السفر معتقداً أنها صديقي لم تقاطعني السيدة المهذبة حتى انتهيت من الحديث ثم قالت بلطف قصتك مثيرة للاهتمام لكنني لست صديقك صديقك يجلس على الطاولة المجاورة وينظر إلينا بدهشة شديدة

أصبحت قراءة الأسعار في المتجر مغامرة مثيرة هل هذه البطاطس بخمسة ريالات أم بخمسين سؤال يجعلني أعيش على حافة الإفلاس أو الوفرة في كل تسوق مرة اشتريت بطيخة ظننت أنها بعشرة ريالات فاكتشفت عند الدفع أنها بمائة كدت أصاب بنوبة قلبية لكنني تظاهرت بالهدوء وقلت للبائع نعم أعرف السعر أنا أشتري البطيخ الفاخر فقط

تعلم أن تضحك على نفسك قبل أن يضحك عليك الآخرون الحياة مسرحية كوميدية ونحن مجرد ممثلين نرتكب الأخطاء من يضحك على نفسه يعيش أطول وأسعد

عندما لم أميز التمثال عن الإنسان أدركت كم مرة في حياتي تعاملت مع البشر الحقيقيين كأنهم تماثيل بلا مشاعر بلا احتياجات بلا قيمة كم مرة مررت بجانب أرواح تحتاج للتحية دون أن ألاحظها عامل كل شيء تراه حتى الأعمدة والأشجار والتماثيل باحترام فقد يكون بعضها بشراً حقيقيين وحتى لو لم تكن فالاحترام عادة جميلة تستحق الممارسة

أصبحت الآن أرتدي نظارتين واحدة للقراءة وأخرى للنظر البعيد كأن الحياة تقول لي عليك أن تتعلم متى تركز على التفاصيل القريبة ومتى تنظر إلى الأفق البعيد درس في الفلسفة مغلف في وصفة طبية

عندما أنظر إلى العالم بدون نظاراتي أراه أقل حدة وأكثر نعومة تختفي بعض التجاعيد من وجوه الناس وتتحول الشوارع المزدحمة إلى لوحات أكثر هدوءًا وتصبح الأشياء القبيحة أقل قبحاً أحياناً أتساءل هل هذه هي الطريقة التي يجب أن نرى بها العالم بقليل من الضباب الرحيم الذي يخفي العيوب ويبرز الجمال

أتذكر بكل احترام وتقدير كيف كان والدي يمسك الجريدة بمسافة مناسبة ليتمكن من قراءتها بوضوح اليوم أفعل الشيء نفسه وأدرك أن بعض الأشياء تحتاج إلى مسافة لنراها بوضوح الفواتير المشاكل والعلاقات المعقدة خذ خطوة للوراء عندما تكون غارقاً في مشكلة ابتعد عنها قليلاً المسافة تمنحك منظوراً أفضل تماماً مثلما تتطلب القراءة الواضحة المسافة المناسبة هذا ليس ضعفاً بصرياً بل حكمة بصرية

من الغريب أن احتياجي للنظارات جعلني أستمع أكثر عندما لا تستطيع رؤية كل تعابير الوجه بوضوح تبدأ في الإنصات إلى نبرات الصوت عندما تحتاج للتركيز أكثر لقراءة الكلمات الصغيرة تبدأ في قراءة ما بين السطور

أصبحت أتعرف على الناس من طريقة مشيهم من نبرة صوتهم من عطرهم المميز أصبحت أعرف الشخص من جوهره وليس من مظهره وكم من صديق قديم لم أتعرف عليه فوراً لأنه غيّر مظهره فقط مما جعلني أتساءل هل كنت أعرف الشخص حقاً أم مجرد صورته أغمض عينيك واستمع معظم الناس لا يستمعون أبداً هم فقط ينتظرون دورهم للكلام عندما تستمع حقاً ستسمع ما لا يقال وهو غالباً أهم مما يقال

أصبحت أيضاً متذوقاً أفضل للطعام عندما لا تركز فقط على شكل الطعام تعتمد على حواسك الأخرى الشم والتذوق واللمس أصبحت أتذوق النكهات الدقيقة التي كنت أتجاهلها سابقاً الطعام الذي كان عادياً أصبح مغامرة حسية تناول طعامك مغمض العينين مرة واحدة على الأقل ستكتشف أنك كنت تأكل بعينيك طوال حياتك وليس بفمك الطعام له طعم مختلف تماماً عندما تركز على تذوقه

لطالما كنت شخصاً مستقلاً أكره طلب المساعدة لكن احتياجي للنظارات جعلني أحياناً أستعين بالآخرين في أمور بسيطة مثل التأكد من رقم هاتف كتب بخط صغير أو قراءة اسم منتج جديد عندما أنسى نظارتي

في البداية كان الأمر محرجاً قليلاً كيف أطلب المساعدة في قراءة رقم أو كلمة صغيرة لكنني اكتشفت شيئاً مدهشاً الناس يحبون المساعدة هم يشعرون بالسعادة عندما يقدمون يد العون وهذه الحاجة البسيطة للمساعدة أحياناً فتحت أبواباً للتواصل مع أشخاص لم أكن لألتقي بهم في ظروف أخرى

اطلب المساعدة بابتسامة التواضع ليس ضعفاً بل قوة عندما تطلب المساعدة فأنت لا تظهر عجزك بل تمنح الآخرين فرصة ليظهروا أفضل ما لديهم وهذه هدية لهم أكثر مما هي لك

كم من محادثة جميلة بدأت بـ عذراً هل يمكنك مساعدتي في قراءة هذا الرقم وكم من ابتسامة تبادلتها مع شخص ساعدني في أمر بسيط وكم من صداقة نشأت من هذه اللقاءات العابرة الحاجة للمساعدة أحياناً هي عذر رائع للتواصل مع الآخرين

أصبح فن ارتداء الملابس تحدياً يومياً مضحكاً أرتدي أثواباً مختلفة الألوان لا تتناسب مع بعضها مرة ذهبت إلى حفل رسمي مرتدياً ثوباً مقطوع الأزرار وشماغاً بطريقة غريبة

لكن الغريب أن أحداً لا يلاحظ أو ربما يلاحظون لكنهم يعتبرونه أسلوباً شخصياً مميزاً هذا علمني أن معظم قواعد المظهر التي قضينا العمر نقلق بشأنها هي مجرد أوهام اجتماعية الناس الحقيقيون يرون الإنسان وليس ملابسه

ارتدِ ما تريد الحياة قصيرة جداً لتقضيها في القلق بشأن تناسق الألوان وإذا انتقدك أحدهم قل له ببساطة هذه موضة جديدة أنت فقط متأخر عن العصر

أصبحت أكثر حضوراً في اللحظة الراهنة عندما لا تستطيع رؤية ما هو بعيد بوضوح تركز على ما هو قريب منك لا أستطيع رؤية الجبل البعيد لكنني أرى الزهرة التي أمامي لا أستطيع قراءة عناوين الأخبار عن أحداث العالم لكنني أسمع ضحكات الأطفال في الغرفة المجاورة

ركز على ما هو قريب منك المستقبل ضبابي والماضي باهت لكن الحاضر واضح وملموس عش في هنا والآن بدلاً من القلق بشأن هناك وغداً

أصبحت أقدّر فن الغموض فالعالم الذي أراه الآن يترك مساحة للخيال والتأويل كل شيء يحمل احتمالات متعددة كل منظر غير واضح تماماً هو لوحة فنية قابلة للتفسير ربما لهذا السبب يصبح كبار السن أكثر تسامحاً لأنهم يرون العالم بأقل حدة وأكثر ليونة

دع بعض الغموض في حياتك ليس كل شيء يحتاج إلى تعريف واضح وليست كل علاقة تحتاج إلى تسمية دقيقة الغموض يمنح الحياة سحرها ويترك مساحة للاحتمالات

أصبحت أستمتع بالسينما بشكل مختلف عندما أشاهد فيلماً دون نظارتي أرى الأحداث العامة لكنني أفقد بعض التفاصيل المزعجة المشاهد العنيفة تصبح أقل إيلاماً والمشاهد المخيفة أقل رعباً وبطريقة ما أفهم القصة بشكل أعمق لأنني أركز على الحوار والمشاعر بدلاً من المؤثرات البصرية

شاهد فيلماً بدون نظاراتك ستكتشف أن معظم المؤثرات الخاصة التي يضعونها في الأفلام هي مجرد تشتيت للانتباه عن ضعف القصة القصة الجيدة تبقى جيدة حتى لو رأيتها بوضوح أقل

لكن بالرغم من كل هذه الفلسفة المبهجة التي حاولت أن أقنع نفسي بها أجد نفسي في لحظات الصمت الطويلة أغرق في حزن عميق فالحقيقة المرة التي لم أرد الاعتراف بها هي أنني مع ضعف بصري أصبحت أرى الناس بوضوح أكثر من أي وقت مضى أصبحت أرى ما لم أستطع رؤيته طوال عمري بعيني الحادتين

مع كل يوم تحتاج فيه عيناي لمساعدة النظارات تتضح لي الصورة الحقيقية للبشر من حولي أرى خبثهم المستتر خلف ابتساماتهم أرى مكرهم المغلف بالمجاملات أرى خداعهم المتقن الذي كان يخدع عيني السليمتين لسنوات

أصبحت أسمع الكذب في نبرات أصواتهم أشعر بالنفاق في لمساتهم أدرك المصلحة خلف كل هدية وخدمة كأن ضعف بصري منحني بصيرة نافذة تخترق الحجب والأقنعة التي يرتديها البشر

كم كنت أعمى عندما كنت أرى بوضوح وكم أصبحت بصيراً عندما ضعف بصري لكنها بصيرة مؤلمة تجعلني أحن أحياناً لأيام العمى الجميلة عندما كنت أرى العالم جميلاً وأرى الناس طيبين وكانت عيناي السليمتان تحجبان عني الحقيقة المرة للبشرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى