حديث الروح مع الدكتور ممدوح الجبالي

الاستاذ محمد ابوالعلا
العود بين الأصالة والابتكار
حين يتحدث الدكتور ممدوح الجبالي، تشعر أن أنغام العود تنساب من كلماته قبل أوتاره.
بين أصالة الماضي وابتكار الحاضر، يعيش الموسيقار والأكاديمي المصري الدكتور ممدوح الجبالي حكاية عشقٍ مع العود تمتد من طفولةٍ في بورسعيد إلى مسارٍ أكاديمي وفني يضيء سماء الموسيقى العربية.
البدايات والموسيقى كقدر
متى عزفت العود لأول مرة؟
بدأت في سن الثامنة، بعد تجربة مع آلات متعددة مثل الباندولين والأكورديون. لكن اللقاء الأول مع العود في مركز شباب المدينة ببورسعيد كان بداية علاقة أبدية بيني وبينه؛ من أول نظرة، تعلّقت به، وبدأت أحلامي تتحقق على أوتاره.
كيف أثرت نشأتك في بورسعيد في تكوينك الفني؟
البحر منحنا إحساسًا فريدًا بالحياة. مدينة بورسعيد، بانفتاحها التجاري والثقافي، صنعت فينا ذائقة موسيقية منفتحة على العالم.
ما الذي دفعك للاستمرار في دراسة الموسيقى أكاديميًا؟
منذ صغري تعلّمت في “مدارس الحياة” — الموالد والمجالس والمشايخ — مثلما تعلم كبار الموسيقيين. وبعد الثانوية التحقت بمعهد الموسيقى، وانضممت إلى فرقة أم كلثوم كصوليست أساسي، وهناك بدأت رحلتي الفنية الحقيقية.
الفن كرسالة
كيف يمكن للفن أن يعيد صياغة الوعي العام؟
الفن نعمة خُلقت لتهذيب الذوق وتنمية الإحساس. حين يُمارس الفنان فنه باحترام وصدق، يرفع بالإنسانية، أما إن أساء إليه أساء إلى نفسه قبل أن يُسيء إلى الفن.
كيف توازن بين التقنية الموسيقية والحس الجمالي لدى الطلاب؟
الموسيقى تُسمع قبل أن تُعزف. يجب على الطالب أن يسمع ويفهم ما يسمع، فالفهم يحوّل التقنية إلى إحساس.
هل فقدنا “روح النغم الأصيل”؟
نعم، فقدنا الكثير. أُحمّل المبدعين مسؤولية ذلك، فابتعادهم عن الساحة ترك فراغًا ملأته أعمال مشوهة. الفن مسؤولية قومية، ويجب دعم المبدعين الحقيقيين ليستعيد الفن مكانته.
العود… سيرة وتر
لماذا يُقال إن العود أقرب الآلات إلى صوت الإنسان؟
العود يشبه الحنجرة، وصوته الأقرب إلى القلب. في مؤلفاتي مثل سماعي راحة الأرواح وسماعي شد العربان حاولت أن أعبّر عن هذا القرب الإنساني، وسعادتي أن هذه المؤلفات تُعزف اليوم في دول عربية عديدة.
لماذا اخترت رياض السنباطي موضوعًا لبحثك الأكاديمي؟
السنباطي هو عميد الارتجال في الموسيقى العربية. دراسته كانت تجربة عميقة في فهم “التقسيم” كحالة وجدانية، لا مجرد مهارة.
هل يحتفظ الارتجال بمكانه في عصر التكنولوجيا؟
للأسف، بدأ يبتعد عن المشهد. التكنولوجيا أضعفت مساحة المشاعر في الأداء، بينما الارتجال هو أرقى أشكال التعبير الإنساني الصادق.
بين الماضي والمستقبل
ما الذي تعلمته من بليغ حمدي؟
قال لي أول مرة: “حِس اللي بتعمله، مش بس في المزيكا… في كل حاجة.”
كانت تلك الجملة درس حياة؛ فالإحساس هو جوهر الإبداع.
هل يمكن للمؤسسات الأكاديمية أن تقود مستقبل الموسيقى؟
نعم بالتأكيد، فالأكاديميات والمعاهد هي التي تحفظ الذوق وتمنح الفن عمقه العلمي. الاعتماد على السوشيال ميديا وحدها فوضى لا تصنع فناً حقيقياً.
أين مكان الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي؟
الإنسان هو الأصل. يمكن للآلة أن تُقلد الصوت لكنها لا تملك الإحساس. الموسيقى مشاعر قبل أن تكون أصواتاً.
البعد الإنساني والإبداعي
هل تسبق الإبداع طقوس معينة؟
لا طقوس لدي، العود جزء من روحي. يمكنني أن أعزف فور استيقاظي أو قبل نومي، لأنه يسكن داخلي.
ما أقرب مؤلفاتك إلى قلبك؟
سماعي راحة الأرواح، كتبته وأنا طالب، بصدقٍ كامل، وهو الأقرب إلى وجداني لما يحمله من عمق شرقي وإخلاص.
لو عزفت أمام التاريخ كله، ماذا ستختار؟
سأرتجل… لأن الارتجال بالنسبة لي هو أصدق لحظات الإبداع.
رسائل للأجيال
ما رسالتك لطلابك ولجيل الشباب؟
اسمعوا أكثر مما تعزفوا. السمع غذاء الروح الموسيقية، كما أن الغذاء الصحي أساس الجسد. كنت أستمع كثيرًا قبل أن أعزف، وهذا ما صنع تكويني الفني.
ماذا تتمنى أن يُكتب عنك في ذاكرة الموسيقى العربية؟
أنني عشت محترمًا نفسي وفني، ورحلت محترمًا نفسي وفني.
يبقى الدكتور ممدوح الجبالي موسيقار نادرًا في زمن الضجيج، يحمل أوتار العود كما يحمل الإنسان حلمه الأول… أن يبقى الفن طريقًا إلى النور، لا إلى الشهرة فقط.



