ولاء الجندي… حين يُغنّي الصدق وتُصبح الأنثى نغمةً من ضوء

حوار واعداد محمد ابوالعلا
حين تمتزج الروح الشرقية بصوتٍ أنثويٍّ يقطر رهافةً وصدقًا،
وتتعانق أوتار العود مع حنجرةٍ تحفظ المقامات كما تحفظ القلوب نبضها،
تتشكّل ولاء الجندي… تلك الفنانة التي تسافر بنا من عبق التراث إلى ضوء الحداثة دون أن تفقد أصالتها.
في هذا الحوار الاستثنائي، نحاورها لتكشف لنا أسرار حضورها، ملامح تجربتها، ومفهومها العميق للفن الطربي في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات.
البدايات والنشأة
متى اكتشفتِ أن الصوت يمكن أن يكون رسالةً، وليس مجرد موهبة؟
الموهبة وحدها لا تكفي في أغلب الأحيان. النجاح يحتاج إلى مثابرةٍ وجهدٍ وتجارب متكرّرة، بعضها يُكلَّل بالنجاح وبعضها لا. لكن حين تنجح تجربة في إيصال فكرة أو ترك أثر في المتلقي، تتحول الموهبة من حالة فردية إلى رسالة تُهديها الفنانة للناس، ويصبح الفن رسالة قبل أن يكون مهارة.
ُولدتِ في بيئة تتقاطع فيها مجالس العلم والشعر والإنشاد مع الموسيقى، كيف أثّر هذا المزيج على تكوينك
أؤمن أن حبّ الموسيقى يولد مع الإنسان، فهي صفة فطرية، تمامًا كما تُولد العيون بلونها والملامح بشكلها. في حالتي، كانت الموسيقى جزءًا من تكويني منذ البداية. نشأت في بيتٍ يعشق الموسيقى، فكانت السهرات العائلية لا تخلو من الأغاني والإنشاد. ذلك الجوّ جعلني أتعلّق أكثر بهذا العالم، وأعتبره امتدادًا طبيعيًا لشخصيتي.
أول مرة أمسكتِ فيها العود… هل كانت صدفة أم قدرًا
كان اختياري للعود قرارًا “ذكيًا”، لأنه آلة تُهذّب الصوت وتُعلّم الانضباط في الأداء. شاء القدر أن يصبح العود جزءًا من هويتي الفنية، حتى صار اسمي مرتبطًا به. ومع ذلك، لا أعتبر نفسي عازفة عود بالمعنى الاحترافي، بل أستخدمه لأرافق صوتي بأنغام بسيطة تُكمل التعبير الغنائي.
الفن والهوية
ولاء الجندي تُعرف بطابعها الأصيل… ماذا يعني لكِ “الطرب العربي” في زمن الأغنية السريعة
من لا ماضي له لا حاضر له. الموسيقى مرآة للحياة، ومع تغيّر أنماط العيش والتكنولوجيا تغيّر وجه الموسيقى أيضًا. أصبح الإيقاع أسرع، والناس تميل إلى الأغنية السريعة لأنها تتناغم مع وتيرة حياتهم المتسارعة في زمن الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية.
هل يمكن للفنان أن يُحافظ على نقاء التراث ويظل معاصرًا في آنٍ واحد؟
الحفاظ على التراث مع البقاء معاصرًا أمر صعب، لكنه ليس مستحيلًا. في زمن المنافسة الكبيرة، أصبح الوصول إلى الجمهور أسهل عبر المنصات، لكن الصعوبة تكمن في تقديم عمل يوازن بين الأصالة والتجديد. الموسيقى عمل جماعي يقوم على ثلاثة أركان: الكلمة، واللحن، والتوزيع. قد يحمل النص واللحن روح التراث، بينما يضفي التوزيع الموسيقي لمسة حداثة تجعل العمل قريبًا من الأذن المعاصرة.
ما الأغنية التي تعتبرينها مرآةً لروحك… ولماذا؟
هناك أغنيات كثيرة تشبهني، لكن الأقرب إلى روحي هي تلك التي تحمل شجنًا وصدقًا في آنٍ واحد. الأغنية التي أعتبرها مرآة لذاتي هي التي تقول ما لا أستطيع قوله بالكلام، وتستطيع أن تترجم حالتي الإنسانية في لحظة ما، بكل ضعفها وقوتها، بكل خوفها وإيمانها.
التجربة والموقف
شاركتِ في “ذا فويس” فلفتِّ الأنظار… ماذا أضافت لكِ التجربة؟ وماذا سلبت؟
مشاركتي في “ذا فويس” كانت محطة مفصلية في تجربتي. منحتني مساحة للظهور أمام جمهور واسع، وعرّفت الناس إلى صوتي وشخصيتي الفنية. لكنها في الوقت نفسه سلبت شيئًا من عفويتي، لأن الظهور الإعلامي المكثّف يضع الفنان أحيانًا في قالب لا يشبهه تمامًا. مع ذلك، أعتبر التجربة درسًا غنيًا بالتحديات، جعلتني أنضج وأفهم نفسي أكثر.
في حفلاتك نلاحظ تفاعلًا روحانيًا مع الجمهور، هل تعتبرين الغناء نوعًا من العبادة الجمالية؟
الغناء بالنسبة لي وسيلة تواصل عميقة مع الناس. عندما أكون على المسرح، أشعر بطاقةٍ متبادلة بيني وبين الجمهور. النظرات، التصفيق، وحتى الصمت، كلها أشكال من التفاعل الذي يخلق لحظة مشتركة لا تُنسى.
هل تمرّ ولاء الجندي بلحظات ضعف فني أو شكّ في الطريق؟ وكيف تتعاملين معها؟
أمرّ بلحظات شكّ كثيرة، وأفكّر بالابتعاد عن الفن أحيانًا، لكنّي أعود دائمًا لأن الموسيقى جزء مني لا أستطيع فصله عن حياتي. الطريق الفني ليس سهلًا، والذائقة العامة ليست دائمًا رحيمة، لكن حب الناس وإيمانهم بما أقدّمه يعيداني إلى الصواب في كل مرة
العود والأنوثة
هناك من يرى أن العود آلة “ذكورية الطابع”، كيف استطعتِ أن تكسري هذا التصور؟
فكرة أن العود آلة “ذكورية” لم تكن عائقًا بالنسبة لي، بل حافزًا لأثبت العكس. لم أتعامل مع العود كرمزٍ للقوة الذكورية، بل كآلة موسيقية تحتاج إلى حسٍّ وصدق قبل أي شيء. حين تمسك به امرأة، تُضفي عليه بُعدًا مختلفًا من الرهافة، وتفتح له بابًا جديدًا للتعبير.
هل تشعرين أن الأنثى حين تعزف وتغني تصبح أكثر صدقًا أم أكثر وجعًا؟
عندما تعزف الأنثى وتغني، فإنها لا تُظهر صدقها فقط، بل وجعها أيضًا. الغناء والعزف بالنسبة لي ليسا استعراضًا للجمال، بل كشف عن الذات. الأنثى حين تُغني من قلبها تُعرّي مشاعرها أمام العالم، فتبدو في قمة الصدق وفي ذروة الألم في الوقت نفسه.
الفن والرسالة
ما الرسالة التي تحرصين على إيصالها عبر صوتك لجمهورك في العالم العربي؟
رسالتي رسالة سلام ومحبة وأمل. أؤمن أن الفن أصدق وسيلة إنسانية للتعبير، وملاذ لي قبل أن يكون للمستمعين. أتمنى أن يترك صوتي أثرًا جميلًا في ذاكرة من يسمعني، وأن يشعروا بصدق الجهد والمشاعر التي أضعها في كل عمل، سواء كانت تجربتي الشخصية أو تجربة أحد المشاركين معي من شعراء وملحنين وموزعين.
في زمن تتصدره “الترندات” و”الأرقام”، كيف تحمين فنك من الابتذال؟
أختار فني بصدق ومحبة. لا أُساوم في اختياراتي، لأن البساطة والصدق هما ما يمنحان الأغنية الحياة.
لو خُيّرتِ بين الشهرة السريعة والخلود الفني… أيّهما تختارين؟ ولماذا؟
أختار الخلود الفني دون تردد. الشهرة السريعة تبهت كما يبهت أي “ترند”، أما العمل الحقيقي الصادق فيبقى، حتى لو تأخر الاعتراف به. الفن بالنسبة لي ليس سباقًا مع الوقت، بل سعيٌ نحو أثرٍ لا يُمحى.
المستقبل والحلم
ما الحلم الذي ما زال يسكنك ولم يتحقق بعد؟
الأحلام لا تنتهي. كل يوم لدي حلم جديد، وكثير منها يتحقق بإذن الله لأنني أؤمن بتوفيقه وبالجهد الذي أبذله في كل خطوة.
ختام اللقاء
في ختام هذا اللقاء، تبقى ولاء الجندي صوتًا لا يُشبه إلا ذاته، وصورةً مشرقة من فنٍّ يُقاوم الزوال…
فنٍّ يُغنّى بضميرٍ حيٍّ وإحساسٍ أنثويٍّ عميق.
شكرًا لولاء التي جعلت من النغم سيرةً، ومن الصمت موسيقى.



