الاهتمام… رفاهية لا يستحقها الجميع

محمد منيع ابوزيد
“أسوأ اختبار هو أن تختبر من يهتمّ بك، لأنك حينها تخسر اهتمامه وتفقد نفسك.”
الاهتمام.. اللغة التي لا يتقنها الجميع
الاهتمام ليس عادة، ولا تصنّعًا، ولا مجاملة مؤقتة تُمنح حسب المزاج.
إنه انعكاسٌ لصفاءٍ داخليّ، ومرآة لقلبٍ يعرف كيف يُحبّ دون أن يُقايض.
لكن المشكلة الحقيقية ليست في الذين لا يفهمون الاهتمام، بل في الذين يتلقّونه وكأنّه واجب، وكأنّ وجودك الدافئ حولهم حقّ مكتسب لا فضل فيه.
تبدأ الحكاية دائمًا من نيةٍ طيبة: كلمة، سؤال، متابعة صادقة، تذكّر في وقتٍ لا يتذكّرك فيه أحد.
ثمّ يتحوّل الأمر فجأة إلى اختبار، لعبة صامتة يقودها من يجهل قيمة المشاعر.
وكأنّ الاهتمام جريمة يجب أن تُعاقَب، أو ضعفٌ يجب أن يُخفى خلف أقنعة الكبرياء.
حين يصبح الاهتمام اختبارًا
هناك من لا يرتاح إلا حين يختبر من يهتمّ به.
يغيب عمدًا، يختلق المسافات، يتصنّع البرود، ويجلس في الظلّ ينتظر كم ستصبر.
يظنّ أنه يمسك زمام العلاقة، لكنه لا يعلم أن من يُفرط في الاهتمام لا يُجبر على البقاء، بل يختار الصمت حين يُستنزف.
من يتلاعب بمشاعر الآخرين لا يدرك أنه في كلّ مرة يختبر فيها شخصًا مخلصًا، يخسر جزءًا من صدق العلاقة.
فالاهتمام لا يُختبر، بل يُقدَّر.
وكلّ محاولةٍ لقياسه تُطفئ شيئًا من وهجه حتى ينطفئ تمامًا.
كبرياء لا يُقارن
هناك فئة من الناس تظن أن السيطرة في العلاقات تمنحهم الهيبة، وأن التجاهل سلاحٌ يرفعهم فوق الآخرين.
يتعاملون مع العاطفة كما يتعامل الملوك مع الجند: يأمرون بالوجود، ويأذنون بالغياب.
لكن الحقيقة أن الهيبة لا تُبنى على جفاء، ولا الكبرياء يُقاس بكمّ اللامبالاة.
الاهتمام لا يُنافي القوة، بل هو أعلى درجاتها.
أن تهتم وأنت قادر على التجاهل… أن تسأل وأنت تعلم أنهم لا يسألون… تلك شجاعةٌ لا يقدر عليها إلا الناضجون.
أما أولئك الذين يهربون من العاطفة خوفًا من الضعف، فهم في الحقيقة عبيد لمخاوفهم.
ضعفهم لا ضعفي
لقد علّمتني الحياة أن التجاهل لا يعني القوة، بل الخوف.
الخوف من التعلّق، من الاعتراف، من الانكشاف أمام الصدق.
إنهم يهربون لأنهم أضعف من مواجهة مشاعرهم، وأعجز من أن يبادلوا الوفاء بالوفاء.
أما نحن — الذين نفرط في الاهتمام — فلسنا ضعفاء.
نحن فقط أكثر إنسانيةً مما يحتملون.
نمتلك القدرة على الاحتواء حين يعجزون، وعلى البقاء رغم خذلانهم، وعلى الابتسام رغم الأسى.
لكننا حين نقرر الرحيل، لا نلوّح، لا نعاتب، لا ننتقم…
نكتفي بالسكوت الذي يجعلهم يبحثون عن صدى أصواتنا في الفراغ .
التناقضات الجميلة
المؤلم أن الذين يهربون من الاهتمام، هم أكثر الناس حاجةً إليه.
يرتدون قناع الثقة، يرفعون رؤوسهم بكبرياءٍ مصطنع، يضحكون بصوتٍ عالٍ، لكنهم يختنقون بصمتٍ في الليل.
إنهم لا يملكون الجرأة على الاعتراف بأن اللامبالاة التي يتباهون بها ليست إلا جدارًا هشًّا من الخوف.
يظنون أنهم يملكون زمام العلاقة، بينما في الحقيقة يعيشون أسرى للكبرياء.
إنهم يخسرون دون أن يشعروا، يبتعدون وهم يظنون أنهم المنتصرون.
لكن متى ما سكت المهتم، انهارت اللعبة، لأنهم لا يجدون بعدها من يمنحهم الضوء.
الاهتمام… كرامة لا عادة
من يمنحك اهتمامه يمنحك وقته، ووقته قطعة من عمره لن تعود.
الاهتمام ليس وردةً تُقطف عند الحاجة، بل شجرة تُسقى بالإخلاص كل يوم.
وما أقسى أن تسقي شجرتك في أرضٍ لا تنبت، وتمنح ظلك لمن لا يرى فيك إلا العادة.
الاهتمام لا يُستجدى، ولا يُشترى، ولا يُفرض.
هو قرارٌ داخليّ نابع من نقاءٍ حقيقي.
وحين يُقابل بالفتور، يتحول إلى درسٍ قاسٍ عن قيمة النفس وكرامة
دروس بعد النزيف
تعلمت أن لا أفسّر الاهتمام بأنه حبّ دائم، ولا التجاهل بأنه كره مطلق.
لكنني تعلمت أيضًا أن من يكرر اختبارك، لا يستحق وجودك.
إنه درس العمر:
من لم يقدّرك في حضورك، لن يعرف قيمتك إلا بعد غيابك.
إنهم يتحدثون بعد رحيلك عن “تغيّرك”، ولا يرون أنهم السبب.
يتساءلون: لماذا خمدت الرسائل؟ لماذا صمتت الأصوات؟
ولا يعلمون أن الاهتمام حين يُهدر، لا يعود… لأنه لا يُولد من جديد إلا في قلوبٍ مختلفة.
الكبرياء الناضج
ليس الكبرياء أن ترفض الاعتذار أو أن تُغلق الأبواب في وجه من أحببت،
بل أن تعرف متى تتوقف عن العطاء، دون أن تثير ضجيج الوداع.
أن تمضي بثقةٍ دون انتقام، وتترك خلفك من أضاعك يتعلم من وجعه.
الكبرياء الحقيقي هو أن تظلّ قادرًا على الاهتمام، لكنك تختار ألّا تفعل.
أن تملك في قلبك مساحة للحنين، لكنك لا تقترب لأنك تعلم أن الكرامة أغلى.
وهذا ما لا يفهمه من ظنوا أن التجاهل بطولة.
الندم المؤجل
سيأتي اليوم الذي يدرك فيه أولئك الذين تجاهلوا الاهتمام أنهم خسروا شيئًا نادرًا.
سيكتشفون أن الناس لا تُحبّ طويلاً بنفس الصدق، وأن العاطفة الحقيقية لا تتكرّر.
حينها سيفتّشون في الذاكرة عن ابتسامةٍ، عن جملةٍ قديمة، عن شخصٍ كان يسألهم عن يومهم دون سبب.
لكنهم لن يجدوا سوى الصدى… صدى غيابك.
وحين يسكنهم الندم، لن يجدوا بابًا مفتوحًا ولا قلبًا ينتظر.
لأن من علّمهم معنى الاهتمام، مضى وهو يعلم أنهم سيتعلمون بعد فوات
الرفاهية التي لا تُشترى
الاهتمام رفاهية لا تُباع ولا تُشترى.
إنه ترف لا يدركه إلا من فقده.
بعض الناس يعيشون العمر وهم يطلبون الحب، لكنهم لا يفهمون أن الحب وحده لا يكفي، إن لم يُترجم باهتمامٍ صادق.
الاهتمام هو اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة،
حين تكتب “صباح الخير” لا لأنك مضطر، بل لأنك تتمنى أن يكون يوم الآخر جميلاً.
حين تسأل: “وصلت؟” وأنت تعلم أنه وصل، لكنك فقط تريد الاطمئنان.
تلك التفاصيل الصغيرة التي يراها البعض تافهة، هي التي تحفظ العلاقات من الموت
نظرة في المرايا
من المؤلم أن تنظر حولك فتكتشف أن أغلب الناس لا يحبّون بقدر ما يحبّون أن يُحَبّوا.
يريدون الاهتمام، لكنهم يهربون منه حين يأتي.
يطلبون الأمان، لكنهم يخافون الالتزام به.
وفي النهاية، يشتكون من الفراغ الذي صنعوه بأيديهم.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى:
أن الذين يهربون من الحب خوفًا من الضعف، يعيشون العمر أضعف مما كانوا سيصبحون لو أحبّوا بصدق.
رسالة خفية
إلى من ظنّ أن التجاهل يرفع من قيمته،
إلى من اعتقد أن الاهتمام ضعف، وأن الصدق سذاجة، وأن الكبرياء حائط لا يُهدم…
لقد رحلتُ دون أن أغلق الباب، تركته خلفي مفتوحًا كي يدخل منه الندم متأخرًا.
لم أغضب، لم أنهزم، لم أنكسر، بل اخترتُ الهدوء.
لأن الصمت أحيانًا هو أبلغ أنواع الانتقام.
ربما ستتذكّرني حين لا تجد من يسألك دون مصلحة،
وحين تشتاق لصوتٍ لم يكن يطلب سوى الاطمئنان.
ستفهم أخيرًا أني لم أكن أحتاج ردًا، بل كنت أقدّم حبًّا نادرًا لا يُعاد.
فاحفظ هذه الحقيقة:
الاهتمام ليس ضعفًا، بل سيادة،
ومن فقده خسر عرش القلب دون حرب.



